تحقيق لرويترز: “تحريك الأرض” من القطيفة إلى الضمير لإخفاء فظائع النظام البائد

كشفت تحقيق موسع لرويترز عن واحدة من أضخم المقابر الجماعية السرية في سوريا، التي جرى إنشاؤها ضمن عملية منظمة لإخفاء الفظائع التي ارتكبت خلال حكم النظام البائد.
واعتمد التحقيق على أكثر من 500 صورة أقمار صناعية تغطي أكثر من 10 سنوات بالإضافة إلى 13 شاهداً مباشراً، كما اعتمد على آلاف الصور الجوية والأرضية عالية الدقة باستخدام طائرات مسيّرة وتقنيات المساحة وتحليل جيولوجي من خبراء أجانب لتأكيد التغير اللوني للتربة.
“سيد التطهير”
وبدأت فكرة نقل جثث آلاف الضحايا الذين قضوا على يد الأجهزة الأمنية لنظام البائد من المقبرة الجماعية في القطيفة إلى منشأة عسكرية قرب مدينة الضمير في أواخر عام 2018، في إطار ما عُرف باسم “عملية تحريك الأرض”، وفق ما أكد التحقيق.
وبحسب شهادات ضباط سابقين وسائقي شاحنات وميكانيكيين، فإن العملية أُديرت بأوامر مباشرة من رأس النظام البائد بشار الأسد، ونفذها العقيد مازن إسمندر، الملقب بـ”سيد التطهير”، الذي أشرف لسنوات على عمليات دفن ضحايا النظام البائد.
ومن المتورطين في عمليات إزالة المقابر الجماعية لإخفاء الأدلة رئيس الخدمات الطبية اللواء عمار سليمان ورئيس الاستخبارات العسكرية اللواء كمال حسن.
وذكر التحقيق أنه خلال الفترة الممتدة من شباط 2019 حتى نيسان 2021 كانت قوافل تضم ست إلى ثماني شاحنات محمّلة بالرفات البشرية تتحرك أربع ليالٍ أسبوعياً، باستثناء فترات الثلوج والعطلات والحجر الصحي بسبب جائحة كورونا.
وأوضح أن معظم الجثـث جاءت من مستشفى تشرين العسكري وسجن صيدنايا وكانت مكبّلة الأيدي ومعصوبة الأعين وكثير منها عارٍ تماماً.
وأشار إلى أن العملية تضمنت نحو 2600 رحلة شاحنة على مدى عامين، ما يرجح دفن عشرات الآلاف من الأشخاص في الضمير. وبحلول نهاية 2021، كانت جميع خنادق القطيفة قد أُفرغت وسُوّيت بالأرض في محاولة لطمس أي أثر للمقبرة الأصلية.
ووفق تحليل لصور أقمار صناعية، توسع موقع الضمير تدريجياً ليضم ما لا يقل عن 34 خندقاً بطول إجمالي يصل إلى كيلومترين، مقارنة بـ16 خندقاً في القطيفة. كما أظهرت صور الطائرات المسيّرة تغيرات في لون التربة، ما أكد خلط تربة القطيفة المشبعة بالرفات مع تربة الضمير.
نصيحة روسية
وذكر التحقيق أنه مع اقتراب نظام الأسد البائد من تثبيت سلطته عام 2018، وبدعم من حلفائه الروس، برزت الحاجة لإخفاء الأدلة على الانتهاكات، فبدأت عملية النقل السرية.
ونقل عن ضابط سابق في الحرس الجمهوري قوله إن فكرة نقل آلاف الجثث وُلدت أواخر عام ٢٠١٨، عندما كان الديكتاتور بشار الأسد يأمل في استعادة الاعتراف الدولي بعد تهميشه لسنوات من العقوبات.
ووفقاً للضابط، ففي اجتماعٍ عُقد عام ٢٠١٨ مع المخابرات الروسية، أُكِّد لرأس النظام البائد بشار الأسد أن حلفاءه يعملون بنشاطٍ لإنهاء عزلته، مشيراً إلى أن الروس نصحوا الديكتاتور بإخفاء أدلةٍ على انتهاكاتٍ واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وقال: “أبرزها الاعتقالات والمقابر الجماعية والهجمات الكيميائية”.
وأوضح أن بشار الأسد استدعى أربعة من قادة الجيش والمخابرات إلى القصر الرئاسي لمناقشة الإجراءات اللازمة بشأن المقابر الجماعية، وخاصةً موقع القطيفة، مشيراً إلى أن رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء كمال حسن هو صاحب فكرة حفر مقبرة القطيفة بالكامل ونقل محتوياتها.
وذكر الضابط أن الفكرة حظيت بموافقة الأسد، وكان المعيار الرئيسي للموقع الجديد هو أن يكون تحت السيطرة العسكرية.
حذر وتنظيف
ولفتت رويترز في تحقيقها إلى أنه لم يعثر على أي وثائق تتضمن أوامر مباشرة من بشار الأسد بشأن المقابر الجماعية عموماً أو عملية “تحريك الأرض”. لكن ضابط الحرس الجمهوري وقائد الدفاع الوطني قالا إنه من غير المعقول ألا يكون الأسد قد أمر بها.
وقال قائد الدفاع الوطني: “أتحداكم أن تجدوا أي شيء صادر باسم بشار الأسد، كان يعلم أن الحساب آتٍ لا محالة، وأراد أن يبقى نظيف اليدين”.
وبحسب ما كشفه تحقيق رويترز، تلقى رئيس المخابرات، صاحب فكرة نقل الجثث إلى الضمير، أحد آخر التقارير الأسبوعية عن العملية أواخر عام ٢٠٢١، والتفت إلى ضابط الحرس الجمهوري، قائلاً: “سوريا منتصرة وتنفتح على العالم من جديد، نريد أن يأتي الضيوف ويجدوا البلد نظيفاً”.
وكانت الهيئة الوطنية للمفقودين، أعلنت بعد أن نشرت رويترز التحقيق الأولي قبل يومين أنها طلبت من وزارة الداخلية إغلاق موقع الضمير وحمايته.
وقالت اللجنة إن “كل عائلة لشخص مفقود تواجه معاناة خاصة متشابكة مع التعقيدات العلمية التي يمكن أن تحول عملية تحديد الهوية إلى مشروع فني طويل ومكلف”.



